تحلّ هذه الأيام الذكرى الـ529 على توقيع اتفاقية بين الملك أبو عبد الله محمد الثاني عشر، آخر ملوك المسلمين في الأندلس، وملك القشتاليين، والتي باع بموجبها الأول كل أملاكه في الأندلس للثاني، ثم غادرها في 7 أغسطس سنة 1493، لينتهي بذلك الحكم الإسلامي الذي دام نحو 4 قرون في الأندلس.
وفي الوقت الذي يعيدنا إلى هذه الذكرى المؤلمة للعالم الإسلامي، والمتمثلة بسقوط الأندلس، يبرز في الأوساط تساؤل: أين كان العثمانيون عندما سقطت هذه الدولة الإسلامية، وماذا قدّموا لها ولأهلها؟
بعض خصوم الدولة العثمانية اعتادوا اتّهامها بالتقاعس عن إنقاذ مسلمي الأندلس لأنها لم تكن تابعة لدولتهم، غير أن الوقائع تؤكد أن هذا محض افتراء وفيه مغالطة ومعارضة للحقائق التاريخية الثابتة.
الدولة العثمانية، ومنذ بزوغها، لطالما تعاملت مع قضايا العالم الإسلامي انطلاقاً من كونها دولةً نشأت على تعاليم الإسلام وتهتم لأمر المسلمين، سواء كانوا واقعين ضمن نطاقها الجغرافي أم لا.
وفي هذا الإطار، قدمت الدولة العثمانية الكثير من أوجه الدعم والعون لمسلمي الأندلس قبل وبعد سقوط غرناطة عام 1491، في حدود ما كانت تسمح به إمكاناتها، وما تسمح به الظروف المحيطة.
مرحلة من التهديدات
عام 1477م، أرسل أهالي غرناطة رسالة استغاثة إلى السلطان محمد الفاتح، يطلبون منه إنقاذهم من بطش الإسبان.
آنذاك، لم يكن للسلطان العثماني بأي حال من الأحوال أن يستجيب للنداء، في ظلّ الأخطار الجسيمة التي حاقت بالدولة، والمتمثلة بمواجهة تحالف صليبي شديد.
الدكتور فتحي زغروت، يذكر في كتابه "العثمانيون ومحاولات إنقاذ مسلمي الأندلس"، أن هذا التحالف كان يضمّ البابا سكست الرابع، وجمهورية البندقية، وحكام نابولي، والمجر، وترانسلفانيا، وفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، وعدداً من الزعماء الألبانيين، حيث نجحت القوات المتحالفة بالاستيلاء على إزمير.
بعد ذلك، راسل مسلمو الأندلس السلطان بايزيد الذي خلف أباه الفاتح، وقد ورد نص هذه الرسالة المؤثرة في كتاب "أزهار الرياض في أخبار عياض"، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني، (لا يتسع المقام لعرضها).
وقبل أن نسرد جهود السلطان بايزيد تجاه مسلمي الأندلس، نستعرض في عجالة الظروف التي أحاطت بالدولة العثمانية، في هذا الوقت.
ففي هذه الآونة كانت الدولة العثمانية في نزاع مع المماليك، بسبب رغبة السلطان المملوكي بضمّ منطقة "جوقور أوه" التابعة للعثمانيين، إلى الأراضي السورية التابعة للمماليك، وكانت التوترات قد بلغت أوجها، إلى حد تحرّك الجيوش إلى تلك المنطقة.
ويأتي الخطر الصفوي على رأس الأخطار التي أحاقت بالدولة العثمانية في تلك الآونة، وحول هذا العائق أمام التدخل العثماني، يقول الدكتور نبيل عبد الحي رضوان، في رسالة دكتوراة صادرة عن جامعة أم القرى بالسعودية بعنوان "جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث": "إن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقًا أمام تقدّم العثمانيين في الغرب، لأن مجهود الدولة كان موزّعًا في الشرق والغرب، وبالتالي يقلّل من قوة الهجوم تجاه التقدم في وسط أوروبا".
وإضافة إلى مشكلة داخلية واجهها السلطان بايزيد تتعلق بصراع مع أخيه الأمير قم حول العرش، وما ترتب عليها من مزيد من التوتر مع المماليك الذين قاموا باحتواء الأمير المتمرد، واجه بايزيد تحالفًا صليبيًا جديدًا من البابا جويلس الثاني، وفرنسا، والمجر، والبندقية، ما حدا بالدولة إلى تركيز جهودها على الخطر القادم من أوروبا.
إغاثة الأندلس رغم الأخطار
غير أن كلّ هذه المخاطر لم تمنع بايزيد من مساعدة مسلمي الأندلس، حيث أرسل أسطولا بحريًا إلى الشواطئ الإسبانية بقيادة كمال رئيس عام 1487م، مع أن هذا العمل يعتبر بمثابة إعلان حرب على عدة دول مسيحية، وكانت الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي تحركت من أجل الأندلس، مع وجود الدولة المملوكية في مصر والشام والتي اكتفت برسالة وعيد، والدولة الحفصية في تونس، والدولة الوطاسية في المغرب.
قام كمال رئيس بضرب سواحل جزر جاربا ومالطا وصقلية وساردونيا وكوسيكا، ثم سواحل إسبانيا، وهدم العديد من القلاع والحصون المشرفة على البحر في هذه السواحل، لكنه قطعًا لم يكن ليبقى طويلا، لأن الحرب البحرية لا تكفي للاستيلاء على المدن، فلا بد من مشاركة القوات البرية التي تتوغل في الداخل.
وقام كمال رئيس بنقل أعداد كبيرة من مسلمي الأندلس المضطهدين وتوطينهم في الأناضول، كما نقل معهم أيضًا أعدادًا كبيرة من يهود الأندلس المضطهدين، وعاشوا في كنف الدولة العثمانية.
لم يكتفِ السلطان بايزيد بإرسال أسطوله البحري، وإنما شجع البحارة العثمانيين بشن غاراتهم على القوات الإسبانية والتحرك لنجدة مسلمي الأندلس.
أرسل مسلمو الأندلس رسالة استغاثة أخرى إلى السلطان سليم الأول، الذي قام باحتضان خير الدين بربروس حاكم الشمال الإفريقي، بعد دخوله تحت السيادة العثمانية ومنحه لقب بكلر بك، ودعمه بالجنود والمدفعية، وهو بذلك قد أفاد مسلمي الأندلس، حيث إن بربروس ومن قبله أخيه عروج، كانا قد وجّها جزءًا كبيرًا من نشاطها البحري إلى إنقاذ مسلمي الأندلس من بطش الإسبان.